لا أنام لأحلم, بل لأنسى













لا أنام لأحلم, بل لأنسى.



يوم 24 ماي 1987, استقل كينيث باركس سيارته ليلا ثم قاد لمسافة  23 كيلومترا صوب منزل صهره بأونتاريو – كندا. عند وصوله, أنهى كينيث حياة صهره العجوز خنقا قبل أن يزهق روح حماته موجها 43 ضربة برغي لرأسها ليختتمها بخمس طعنات خنجر .
 توجه باركس إلى أقرب مركز شرطة ليسلم نفسه, إلى هنا تبقى القصة ككل قصص الجرائم لكن... عند أول خطوة في المركز يستيقظ باركس. نعم, كان باركس نائما طيلة ارتكابه للجريمتين, و هذا ما أثبتته الخبرة الطبية عند تبرئته من طرف المحكمة العليا الكندية سنة 1992استنادا لتحاليل الباحثين و علاقة كينيث بأصهاره التي وصفت بأنها كانت جد ودية .
باركس كان ما يوصف بالمتجول الليلي
"somnambule"   
قضية باركس كانت بداية للعديد من التساؤلات حول موقع النوم من الصحة العقلية للشخص, حيث أنه – و لمدة طويلة – ساد الاعتقاد بأن عالم الصحو و عالم النوم مختلفان . لكن المعارف الحديثة في العلوم الطبية العصبية و العقلية - إضافة الى التجارب السريرية- فتحت لنا باب جديدا كنا نجهل وجوده حول هذا السلوك الذي يتعدى ظاهره البيولوجي.

  معارف قديمة حول النوم
قديما, تصور الإغريق أن النوم اللطيف أو العادي "هيبنوس" و الموت أو النوم الذي 
لا يعرف الشفقة "ثناتوس" هما أبناء لآلهة اليل "نيكس", كما صور لنا الشاعر الروماني "أوفيد " الموت على أنه يعيش بكهف على شواطئ نهر الليثي ( نهر النسيان في الميثولوجيا الهيلينية و هو متواجد بالجحيم ) حيث لا تنفذ إليه الشمس أبدا و مدخله مغطى بنبات الخشخاش ( الخشخاش نبات يستمد منه الأفيون مادة طبيعية تستعمل لخصائصها المنومة و المخدرة, نظير الأفيون المصطنع هو المورفين – سمي نسبة لمورفي اله الأحلام ابن نيكس و هيبنوس ), و عند حلول الليل يخرج من جحره ليصنع رذاذا من الخشخاش يرشه على العام الفاني لينام الناس .
أوفيد أثبت لنا الانطباع القديم بأن النوم شبيه بالموت, أن النوم حالة من الخمول و الكسل, لعل هذا الانطباع انتقل حتى إلى المعتقدات الإبراهيمية, ففي الديانة المسيحية اعتبر النوم خطيئة من الخطايا السبع المميتة هذا ما يرد في الإنجيل عندما يخاطب المسيح " لا تعشق النوم حتى لا ينتهي بك الأمر إلى الفقر, و إنما افتح عينيك "  (الأمثال 13-20) من جهة أخرى صور الدين المسيحي النوم كحالة من التنسكة لكن ما يقصد به هنا هو ذلك النوم الخارق للعادة أو النوم المعجزة مثلما حدث للحواري "لازاروس" و الذي لم يستيقظ سوى على يدي المسيح .
أما في الإسلام, صور النوم كحالة خارج الوعي, من خلال حديث النبي محمد " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ , وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ , وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ"
ضف إلى ذلك أن النوم في الإسلام يذهب الوضوء, يفسد الصوم و يعتبر من أسباب قطع الرزق, حيث يسود الاعتقاد في الإسلام بأن ملائكة الرزق تقسم الرزق وقت الفجر , ذلك لحث الناس على الاستيقاظ مبكرا .
نجد في القصص القرآني روايتين عن النوم العميق في قصة أصحاب الكهف, و قصة النبي عزير, في كلاهما نلاحظ أن النوم وسيلة لدفع المظالم,للوعظ, للوقاية في عوالم  تسودها الفوضى .
في الديانات الشرقية- بالأخص البوذية- يقال بأن الكل واحد و أثناء النوم نجد الروح التي لا تتعرض للتشتيت قد تم امتصاصها من هذه الوحدة أو اللب الوجودية أي أن الرقاد حالة من الصفاء و العودة إلى الطبيعة الخلقية البحتة. على صعيد آخر, روجت الديانات الشرقية لفكر الاستيقاظ و الاستنارة و اعتبرت كل انحراف فكري 
بمثابة نوم روحي عميق, لذلك أتى لفظ بوذا من فعل "بوذ"  ( لغة البالي )و الذي 
يعني المستفيق .

النوم و الأدب الابداعي

الحديث عن النوم يجرنا للحديث عن الأحلام, و الحديث عن الأحلام يبعث بنا إلى الفن السريالي, ليس خفيا ان الرسامين السرياليين لجئوا مرارا و تكرارا للغوص في عالم النوم للبحث عن مواد خامة لفنهم, فمثلا روي أن الفذ سلفادور دالي كان ينام فوق أريكة ممسكا ملعقة توقظه عند سقوطها من يده, حيلة دالي كانت عبقرية, ذلك أن دالي كان ينتظر ما يسمى بمرحلة حركة الأعين السريعة ( اكتشفت لاحقا عن طريق دراسة التخطيط الكهربي للمخ ) و تتميز بأنها المرحلة التي يعيد فيها المخ ترتيب و تركيب الأفكار المتواجدة به و هي تتميز أيضا بالنشاط العصبي الكثيف بالمخ المصحوب بحالة شلل بدنية , هذا الشيء كان مجهولا في عصر دالي, لكن عبقرية الرسام الاسباني سمحت له بالتحايل على فيزيولوجيته و استغلالها لأغراض إبداعية .
لكن يبقى السؤال مطروحا, لماذا كان دالي يستيقظ ثواني بعد ولوجه هذا العالم العجيب ؟ الجواب حملته لنا التجارب العلمية سنوات بعد ذلك, إن النظام العصبي يسارع إلى نسيان الأفكار الغزيرة  التي تحملها مرحلة حركة العيون السريعة , وعادة ما تكون هذه المرحلة مصحوبة بشلل بدني يأتي كمنعكس وقائي يمنع الفرد من التصرف في عالم الواقع تحت تأثير أفكار اللاوعي ( هذا ما كان غائبا في نوم كينيث باركس و تسبب بجريمته في حق صهره ).
مثال آخر في مجال الأدبي الروائي يطرحه الكاتب الفرنسي غي دو موباسنت, حيث أن "غي" أصيب بداء الزهري ( مرض منتقل جنسي ذو تأثيرات على الجهاز العصبي ) و قد أثر هذا الداء على المناطق المسئولة عن النوم بمخه , هذا ما أدخل الأديب الفرنسي في حالة شبيهة بالجنون تمخض عنها كتابه الشهير le horla و الذي من خلال قراءته نجد Guy de Maupassant  مدركا تماما للتغير الرهيب الذي طرأ على إدراكه و استقباله الفكري للعالم المجرد , يبدو ذلك جليا عندما يتساءل عن حقيقة العالم المادي إن كان أسيرا  لإدراكنا أم لا, و يطنب متسائلا " أن كان نشاط بديهي و روتيني كالنوم قد أحدث ذلك الشرخ الجنوني بيني و بين معتقداتي السابقة. فيا ترى,هل زيادة أو الاستغناء عن حاسة من حواسي سيغير العالم ؟ هل سيتغير العالم كما هو  أم أني فقط أسير لحواسي المحدودة أساير إيحاءاتها ."
  ماذا لو كان عالم الأحلام متناسخا مع الواقع ؟
 عالج الروائي الروسي Gontcharovذلك في روايتهOblomov , تدور أحداث القصة حول بورجوازي روسي في عصر القياصرة يدعى Oblomov . يقضي بطلنا ثلثي يومه نائما فوق كنبته مقاوما لمحاولات محيطه العنيفة لجذبه خارج نومه, تجري القصة في قالب كوميدي ينتهي بتحقيق الإقطاعي لحياة ثانية أكثر تقبلا في النوم أين يتعايش مع عائلة و أصدقاء من وحي خيالات أحلامه. هنا أصبح الحلم نسخة جمالية عن الواقع و أضحى الواقع غير مرغوب فيه أو غير طبيعي.

النوم كممارسة اجتماعية

حتى وقت قريب لم يكن للنوم غرف مخصصة أو ملابس أو حتى عرف مشترك, يذكر أن أول من خصص غرفا للنوم كان الملك الفرنسي لويس السادس عشر والذي كان يولي أهمية عظمى لطقوس النوم و الاستيقاظ حتى وصل به الحد لاستقبال كبار الدوقات في غرفة نومه للتباهي بابتكاره .
مثلا في الهند لا تستغرب لو وجدت أشخاصا يغطون في النوم في كل كان,كل زمان و كل الأوضاع , فذلك أمر عادي جدا هناك , بينما يمنع النوم بالشارع في الحضارات الغربية, بل و يعبر ذلك عن فشل اجتماعي لصاحبه .
يمثل النوم تجارة مربحة, حيث يعلني معظم البالغين بمشاكل في النوم, مما حتم اللجوء لبدائل دوائية تستحضر النوم . كانت البدايات قديما باستخلاص عصارات العفيون طلبا للارتخاء و النوم, أما أول دواء مخبري جرى طرحه في الأسواق فقد كان متمثلا في فئة الباربيتوات (les Barbirutiques)  و التي تم التخلي عنها لاحقا لما تسببه من إدمان  و آثار جانبية أخطرها الاكتئاب الانتحاري , طرحت بدائل أخرى لاحقا مثل Benzodiazépines, لكن يبقى التحدي الأكبر في اقتراح بديل بنقائص أقل و بنوم قريب من الطبيعي بأضرار أقل .
تشير آخر الإحصائيات أن ما بين 10 إلى 20 مليون بالغ بالولايات المتحدة الأمريكية يتعاطون المنومات بانتظام تحت وصفة طبية, ما يجعل من النوم تجارة بأرقام مهولة للشركات المصنعة .
    
 نوم الجسد و نوم الروح
كبشر, نقضي أكثر من ثلث العمر في أروقة النوم و الحلم. كل منا ينام لسبب بعضنا ينام طلبا للراحة, و بعضنا ينام هروبا من واقع أليم, بعضنا ينام طلبا للإلهام و البعض الآخر ينام لسر مجهول, كل ذلك يدفعنا للإقرار بأن النوم ضروري لصحة عقلية سليمة, لجسد سليم خصوصا لو كان وفق ضوابطه الصحية دون مغالاة .
لكن, لنطرح  سؤالا قبل أن ننتهي... هل نحن نائمون حقا عندما ننام ؟ و الأهم من ذلك , هل نحن صاحون حقا و نحن مستيقظون ؟ ألسنا نحن كمجتمع, أو حتى كأفراد.... نائمين فكريا و أخلاقيا في عصر أصبح كل شيء فيه مالا و أرقاما ؟

Commentaires

Articles les plus consultés