بين موسيقى فيينا و أضواء بودابست


 بين موسيقى فيينا... و أضواء بودابست

يوسف إزرارن


وها أنا قد عدت من فيينا، إذا رأيتني من بعيد خلت أنني نفس الشخص الذي تعرف، لكن الروح هنا تنضج، والعقل يكبر ما يكبره في عشر سنوات في غيرها من المدن. رحلت منها رحيل الجسد، اما روحي فلا زالت تحوم هناك تأبى الرحيل، كيف لا والحديث في فيينا ليس بالألسن على تعددها ولا باللغات على تنوعها، اللغة الوحيدة هنا... هي لغة الفن. فبيت بيتهوفن هنا لمن لا يعرفه، وهنا نظم موزارت سيمفونيته وهنا اشتهر حين كان ذات يوم قائدا لأوركسترا المدينة. ولو لم أرَ روما من قبل، لقلت أنك أجمل المدن في أوروبا.

لا تكاد الألسن تهدأ من ذكر اسم موزارت هنا، شيدوا له من التماثيل أجملها وقيدوا لصنعها من النحاتين أمهرهم، كادت تماثيله ان تكون أجمل من تلك التي صنعوها للمسيح عليه السلام، كاد صوت موسيقاه في الشوارع أن يغلب صوت أجراس الكنائس وصلواتها، كدت أظن أن موزارت يُعتبر إلها هنا أو أن الدين عندهم يكنّى الموزرتية لا المسيحية. بيتهوفن و موزارت و جوزف هايدن و آخرون، أسماء قد يستعصي على العربي نطقها، هي أسماء رجال بنوا مدنية أوروبا، أسماء رجال أجسادهم تحت الثرى، و ما لوى الثرى أعمالهم فهي عظيمة عظمة بنيانهم الشاهق الذي يلوي رقبتك إذا ما أردت رؤية قمته، لعلوه قد لا ترى الشمس هنا إلا حين تتوسط كبد السماء.

و إني أعلمكم أني قد دخلت متاحفها و قصورها... و يا ليتني لم أفعل، أتيت من شمال إفريقيا باحثا عن جمال العمران فترتاح نفسي برؤيته و ما زاد ذلك نفسي إلا تعبا فوق تعب، كظمآن شرب من بحر واسع فما زاده الشرب إلا ظمآ.،في أحد القصور وجدت قطعة موسيقية عريقة، أجهل من أي العصور أتوا بها، اتراها كانت هنا حين كان موزارت حيا، أكانت من الآلات التي استعملها لنظم موسيقاه التي سارت من أوبرا فيينا إلى أوروبا و من أوروبا لكامل العالم؟ أم أنها كانت تستعمل في أفراح أمرائهم القدماء يتراقص على موسيقاها خدمهم؟ أم تراها كانت هنا حين سقط العثمانييون بمدافعهم أمام الأسوار العملاقة، يومها ربما استعملت لتعم الأفراح في المدينة الصامدة في وجه سليمان القانوني وجيوشه، نعم يا من لا تعرف الخبر، على أسوار هذه المدينة توقف مد وزحف الاسلام في أوروبا، هنا انسل المرض في جسم الرجل المريض، وما اسم الرجل المريض عن قراء التاريخ بغريب. نعم هنا توقف الأتراك، من هنا، أقصد فيينا... تبدأ أوروبا. 

ما رأيت أعلاما هنا غير أعلام النمسا، فقط علم واحد رأيته مرفرفا فرفرف معه قلبي و اهتزت له نفسي اهتزاز قصبة جوفاء في مهاب الريح، هنا رأيت علم فلسطين يعلو و الناس تهتف و أنا معهم... "أن افتحوا أقصانا"، سرعان ما احاطت بنا الشرطة تحرص جمعنا... و لكن أي شرطة و أي شرطي بل أي شرطية؟ شرطية بعيون زرقاء في يدها مسدس ناعم أشبه بذاك الذي أشتريه لأخي يوم العيد يصوبه عليّ فلا أخاف رصاصته، أين السلاح هنا أتُراها تُخيفُ جمعنا بمسدسها أم بأعينها؟ المسدس في الغمد لا تُخشى مضاربه، ومُسدّس عينيها، كما يقول شاعرنا، في الحالتين بتّارُ. "بينك بين قلبي بندقية" كذا أجاب الدرويش صديقته حين التحقت بجيش صهيون، لو رأى شاعرنا ما رأت عيني أكاد أقسم بالله ما كان قالها، إذ لا يجد كلامه حينها في ميزان البلاغة رصيدا. أنا الذي كُنتُ بالأمس أنقم على بني عُثمان حين خاضوا معركة الإقدام إحجاما ففشلوا في حصار فيينا ومنعوني من أرى اليوم مئذنة تعلو على أجراس الكنائس، أمسيتُ أعذرهم وأشفق على ما واجهوه... من الصعب أن تقف في وجه ذلك المسدس الناعم الذي وقف أمامي اليوم.

كنتُ أغبط موزارت على موهبته و موسيقاه، و أتساءل من أين يأتي بذلك الالهام، فوجدت الجواب حين زرت مدينته التي ترعرع فيها، لا يأتيه الالهام من شوارعها و ساحاتها و حدائقها فقط، بل من نهر الدانوب أيضا، في العادة تُبنى المُدن على ضفاف الأنهار، لا أعتقد أن هذا ينطبق على فيينا، أعتقد أن الدانوب أُعجب بها فغيّر مساره و أتى ذليلا مُنصاعا يُريد جوارها، قد غازله النّيل من القارة السمراء بفكتوريا و القاهرة، و غازله الميسيسيبي بممفيس و نيو أورليانز بأمريكا فكان ردُّ الدانوب صاعقا "أمّا أنا فأرتمي في أحضان فيينا، في النهار يحميني عُلُّوُ بيانها من حُرقة الشمس، و مساءَ أُريح نفسي بأنغام الأوبرا ، أما في الليل فيصطف الناس الهانؤون على ضفافي فرحين مُهلّلين بأنهم حجّوا إلى عاصمة الفن و الفنون".

و ها أنا اليوم اُغادرُها، لكن كما قُلت لكم، الشخص الذي أتى ليس نفسه المُغادر، فالروح و العقل أنضج، يشتاق الناس إلى الأماكن بعد أن يُغادروها بزمن، فمالي أنا قد اشتقت لها و أنا بين أسوارها، سأذكر حكايتي هذه أينما رحلت و ارتحلت، و قد آن الأوان أن نفترق سألقي السلام على معالم فيينا، فإلقاء السلام يجلب المحبة لعل تلك الأسوار تُبادلني الشعور يوما ما، سلاما ساحة سكونبرون، سلاما قصر هوفبورغ، يا مكتبة القصر سلام، كنيسة القديس ستيفان سلام، متحف ألبرتينا سلام، كنيسة كارل سلام، حديقة بورغ سلام، يا نهر الدانوب سلام، و إلى روحي التي تركت جزءا منها يسبح هناك... سلام.



مرت الأيام سريعا، ضاق الصدر بما رحب، اشتاقت النفس للهواء العليل و الأقدام للسير الطويل، فحملت حقائبي و سرت مع رياح الجنوب مرة أخرى، من بولندا إلى سلوفاكيا و منها إلى المجر حيث حططت الرحال في عاصمة أوروبا الوسطى بودابست، هي في الخريطة بمثابة القلب من الجسد، البعض قال بأنها باريس الثانية، اختلف الأحزاب بينهم حول الأجمل في القارة العجوز، قالوا اثنان ثالثتهم بودابست، و قالوا اربع و خامستهم بودابست، و قالوا خمس هي سادستهم لا يعلم ترتيبها إلا القليل، اختلفوا حول الترتيب لكنهم أجمعواعلى أنها ضمن الأفضل.

"رُبَّ صُدفة خير من ألف ميعاد" كذا قالت العرب قديما و صدقت، ففي بودا التقيت أحد أصقائي القدماء من فيينا، إنه الدانوب يا جماعة، من بعيد عرفته و هو لي من المنكرين، و رُحتُ أسألُ نفسي...كيف له أن يبدّل ظل فيينا الظليل بِحرِّ بودابست، فالشمس هنا ساطعة تصب جام غضبها على بني البشر، 40 درجة أشار سلّمُ الحرارة اليوم، فقُلتُ رُبّما نهر واسع يُغنيه ماءه عن كل شمس حارقة... و رُحتُ أختلق لهُ من الأعذار سبعينا عُذرا، لكن نفذ قاموس أعذاري عندما طرحت على نفسي هذا السؤال: و بماذا يغني نفسه هنا عن موسيقى موزارت يا ترى؟ حينها خرج الدانوب عن صمته و استرسل قائلا: "رُويدك لا تُسرع في الحُكم، سيأتيك الجواب من أوّل الليل حتى آخر الأسحار، و إنّي من الصباح أسمعك لا تفتأُ تذكر فيينا تالله إنّك لفي ضلالك القديم، ستسرق بودا منك صُواع نفسك و إن تسرق فقد سرقته منك أختها النمساوية من قبل" فكتمتها في نفسي و قلتُ شتّانَ بين الثرى و الثرية.

و أرخى اللّيلُ سدوله على المدينة، فخرج النّاسُ جماعات و آحادا يستبقون نحو النهر يصطفون أمام المراكب يُريدون ركوبه، فركبت معهم و أنا لا أرى ما المميز في ذلك بعد، فرُحتُ أُنشدُ "ليس كُلُّ ما يتمنّاهُ المرءُ يُدركه... تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السّفن"، و ردّ الدانوب فقال: " تأتي الرياح بما تشتهي سفينتنا... نحن الرياح و نحن البحر و السفن، إن من يبتغي شيئا بهمّته... لبالغه و لو عاندته الإنس و الجنُّ، فاقصُد إلى قمم الأشياء تبلُغها... تأتي الرياح كما رادت لها السفن".

ما هي إلا لحظاتٌ حتّى أُضيئت أنوار المدينة، أُضيئت القصور و الدّور و الجسور، فبُهتُّ و عجز لساني عن النطق، فقرّرتُ أن أُمارس حقّي في الصمت، حينها فهمت ما كان يعني الدانوب... أما فيينا فليوم مُشمس جميل، و بودابست لليل هادئ طويل.




Commentaires

Articles les plus consultés